 لم يحظ اختيار أبي تمام في كتاب " الوحشيات " بالعناية التي وجدها اختياره الموسوم بديوان الحماسة ، فالاخير حظي بالرواية والشرحمن قبل العلماء والمشتغلين بالأدب منذ القرن الثالث الهجري وإليعصرنا هذا الحديث وبلغ ما أحصيناه له من شروح أربعة وأربعين شرحاً ؛ وهي شروح منها ماهو مطبوع ، ماهو مخطوط ، وما هو مفقودهذا فضلاً عن أربعة شروح مجهولة المؤلف ، احدهما أشار إليهاكارل بروكلمان ةأفاد بأن مخطوطته موجودة في مكتبة (ميونخ)بألمانيا تحت رقم 889 وثلاثة وقفت عليها في مكتبةالسلمانية بتركيا تحت أرقام 1814،2775،2776. مقياس أبي تمام في اختيار الوحشياتأما مقياس الاختيار عند أبي تمام في الوحشيات فقدكان نفس المقياس الذي اختار به ديوان الحماسة وهومقياس فني جمالي يقوم على اختيار الجيد من الشعر في سائر الأبواب التي حددها في اختياراته الشعرية وقد تكلم عن هذا المقياس من القدماء كل من القاضي الباقلاني في كتابه " إعجاز القرآن " وأبي علي المرزوقي في مقدمة شرحه للجماسة ، فقد ذكر الباقلاني بعد أنأشار أن الشعر العربي يضم بين طياته المستنكر الوحشي والمبتدل العامي ومن تم فإن الاعدل في الاختيار الشعري هو " ماسلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في كتاب الحماسة وما اختاره من الوحشيات ، وذلك أنه تنكب المستنكر الوحشي والمبتذل العامي ، وأتي بالواسطة وهذه طريقة من ينصف في الاختيارووازن المرزوقي بين طريقة أبي تمام في اختيارالشعر وطريقتهفي قول الشعر فقال " إن أبا تمام كان يختار مايختار من الشعر لجودته لاغيرويقول مايقول من الشعر لشهوته ، والفرق بين مايشتهي ومايستجادظاهر،بدلالة أن العارف بالبز قد يشتهي لبس مالايستجده ، ويستجيد ما لايشتهي لبسه." وجود قطع في الابواب ليست في حدهاكان شُراح الحماسة الذين وقفنا على شورحهم من أمثال المرزوقي ،وزيد بن علي ، والخطيب التبريزيقد نبهوا إلى أن في أبواب ديوان الحماسة قطعاً خرجت من حد الباب الذى رويت فيه وكنا وفقاً لما ورد من تعليلاتقي هذه الشروح ولما قال به بعض الباحثين المعاصر ينقد حصرنا اسباب هذا الخلل الناجم في الابواب في عاملين:أحدهما أن أغراض الشعر لم تكن قد تبلورت بعد في عصرأبي تمام بالصورة التي نراها اليوم وأول دليل على ذلكأن البحتري تلميذ أبي تمام قد بلغ بها أربعة وسبعين ومائة باب في حماسته التي تنسب إليه والتي قيل إنهجاري فيها أستاذه ، والعامل الاخر هو أن أبا تمام كان يراعي في الباب الواحد مشاكله القطع في بعضالمعاني وإن خرجت عن الحد الذي يقوم عليه البابأما الوحشيات فقد كشفت دراستنا لها أن الخلل الذيلاحظه شراح ديوان الحماسة في أبوابه ظل قائماً،حيث يتضح ذلك للقارئ في جملة من الابواب التي انتظمها كتاب الوحشيات ، ففي باب الحماسة مثلاً نجد القطعة رقم (52) وهي من بيتين نسبهماأبو تمام لآخر وهما:رمى الفقر بالفتيان حتى كأنهم بأقطار آفاق البلاد نجوموإن امرأ لم يُفقر العام نبتهولم يتخذ لحمه للئيم فهذان البيتان أليق بباب الأدب من بابالحماسة فضلاً عن أنهما لم يشاكلا القطعة السابقة في معنى من المعاني قيمة كتاب الوحشياتلاشك في أن قيمة كتاب الوحشيات تقل عن قيمة ديوان الحماسة وقد وضح ذلك بجلاء محققه عبد العزيز الميمني حين قال: " ولا غرو أنه في حسن الاختيار وجودة الانتقاء دون صنوه الحماسة"كما لا يغيب عن بالنا أن كتاب الوحشيات كما وضحنا في صدر هذه الدراسة لم يجد عناية بالشرح والدراسة وهذا يقلل من قيمةقراءته لان كثيراً من الشعرالذي ضمه يحتاج الى شرح وتوضيحومع هذا الذى قلناه فإن للوحشيات قيمة تبدو في رواية شعرلانجده إلا فيها ، ومن أمثلة ذلك قصيدة للمرار بن سعيد الفقعسي تبلغ سبعة وأربعين روت منها بعض المصادر أبياتاً متفرقات ولم ترد كاملة إلا في كتاب الوحشيات وهي الهزية الي جاء في اولها وجدت شفاء الهموم الرحيل ** فَصَرمُ الخِلاجِ ووشك الفضاء وبعد فإن كتاب الوحشيات يعد معلماً بارزاً من معالم الاختياراتالشعرية ،وهو مفيد للدارسين في الادب القديم لأن صاحبه كان "أشعر في اختياره من شعره" ولأنه كان "يلتقط الأرواح دونالأشباح " وهو لا يزال في حاجة إلي جهد يشرح أبياته ويكشف عن مضامينها ، أو يقوم بتحليل جملة صالحةمن قطعة وقصائده على نحو ما فعل علي ناصف النجدي في كتابه " دراسة في حماسة أبي تمام " وإني لامل أن تكون هذه الدراسة قد أدت غرضها والله تعالى منوراء القصد . إنه نعم المعين على كل شئمقالة للدكتور :: محمد عثمان علي |
