ماذا سيمنحك رمضان؟
يأتي رمضان كلَّ عامٍ ليُعزِّز في النفس الإنسانية الرغبة في الإقبال على الخير، والدافعية على العمل الصالح، ويُوقِظ المرء من انغماسه في الغفلة، ويَنتشله من الغَرَق في مستنقعات الشهوات والشواغل غير المفيدة، ويُوقِفه عن اللَّهْث وراء كل ما هو مادِّي، ويُخلِّصه مما يمارسه من عادات سيئة، ويُعيده إلى أصالة فطرته وطهارة قلبه وسُموِّ رُوحه.
ففي رمضان تكون الأجواء مُهيَّأة ومساعدة للصائم في تعلُّم النظام والانضباط بشكل دقيق، وإدراك أن الصوم أمانة في عُنُقه استودعها اللهُ إيَّاه، باعتبار رمضان فرصةً ذهبيةً ليُعيدَ الإنسانُ فيه النظر في سلوكياته الحياتية، ولكونه محطةً مهمة لانطلاق الإصلاح والارتقاء الذاتي؛ لأنه ليس مجرد مرحلة مؤقتة ينجلي ما يَمنحه لنا بذَهابه، فرمضان سبيل للتخلُّص مما أنت فيه من ارتكاس وتخبُّط في مسيرتك الحياتية بالالتفات إلى رُوحك والعناية بها؛ فبذلك يسمو فكرُك وقلبُك ومشاعرُك؛ بترقِّيك في مدارج العبادات والطاعات، وتجاوُزك للشهوات الرخيصة والنزوات الهابطة، وترفُّعك عن السفاسف والمكروهات.
إن البيئة الجديدة التي ينقلك إليها رمضان، يُمكنك من خلالها تغيير أنماطك السلوكية، مما يعني أن معالم الارتقاء بالذات تكون بارزةً وواضِحةً أكثر في رمضان من غيره؛ أي: إن الإنسان يستطيع أن يُعيدَ برمجة ذاته وَفْق نمطٍ جديدٍ يساعده أكثر على الارتقاء بذاته التي هي بحاجة لذلك على الدوام.
وتجد في رمضان مقومات كثيرة تُؤهِّلك لتقوية إرادتك، وتعويد نفسك على التغيير في شتَّى جوانب حياتك، وإكسابك سلوكياتٍ جديدة؛ كإقلاعك عن الكلام الذي لا فائدة ولا طائلة منه، وهِجْرانك للعادات السيئة، وما أشبَه ذلك من تصرُّفات غير سويَّة.
وينطلق الارتقاء الذاتي عبر الزُّهْد في الماديات بجميع أنواعها وترشيد الاستهلاك، خصوصًا أن هذا الشهر المبارك تحوَّل إلى موسم للهوس الاستهلاكي عند الكثيرين، بفعل كثرة الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب، وتضييع الوقت في الملهيات، وانتشارُ هذه العادات الخاطئة مناقضٌ لغايات الصيام ومقاصده التي شُرِع من أجلها.
رمضان شهر وُجِد لتخرُجَ فيه عما ألِفَتْه نفسُك طوال السنة، وتمنع بذلك استرسالها وانسياقها وراء الرغبات الشهوانية التي لا تجد رَدْعًا قويًّا للسيطرة التامة عليها كالذي تجده في رمضان، وينبغي عليك أن تعلم أن النفس البشرية تنتعش بنشاط الجانب الرُّوحي الذي يُسهم بشكل كبير في تطهير الجانب المادي مما يُفسده، وبذلك يسمو بشهواته ورغباته وميوله إلى ما يحب الله سبحانه وتعالى ويرضاه، فيصير الإنسان منبعًا من منابع الخير في مجتمعه، وتصبح تصرُّفاته ومواقفه سويَّةً وصادقةً.
إن الصوم في رمضان يُعطي للذات فرصةً حقيقيةً للإصلاح، ويُوفِّر لها الظروف الكاملة للارتقاء الذي يأتي بعد تجفيف منابع السلوك المنحرف التي تجرُّ النفس وتقودها إلى ارتكاب المحرَّمات، وتُخرِجها عن جادَّة الصواب، فالإصلاح في رمضان يحتاج إلى أن يكون ثورةً شاملةً، ولا ينبغي أن يقتصر على ترقيع مواقع الخَلَل فقط.
في رمضان تتربَّى النفس البشرية على التقوى والإخلاص، فيجود الصائم بما بخِل به في غير رمضان؛ أي: إن هذا الشهر المبارك يُعطي للصائم قوةً دافعةً نحو التغيير الفعَّال، فما على الصائم إلا أن يُصحِّحَ النية ويُجدِّدها، ويتسلَّح برغبة وعزم لإصلاح نفسه والارتقاء بها؛ فالعيش في رحاب رمضان فرصةٌ ليتجوَّل المرء داخل ذاته، ويُدرك بذلك نواقصَه وعيوبَه، وينتقد مواقفَه وتصرُّفاته، كما أن تصفيد الشياطين في رمضان من الدوافع التي تُشجِّع الذات على الانتصار على أهوائها ورغباتها الرُّوحية الدنيئة، وتجعلها تتخلَّص من الوساوس السيئة.
ورمضان محطة لتصحيح السلوكيات، يسهُل فيه إحداثُ الإصلاح الذاتي بالوصول إلى التغيير الفكري السليم، من خلال تهذيب الأفكار، والتخلُّص من الضلالات الفكرية، وعدم الانصياع للمعتقدات والأفكار الخاطئة، والتعديل السلوكي السوي بترويض الذات، وتعويدها على فقد المرغوب فيه، وتغيير العادات اليومية المألوفة، واكتساب سلوكيات جديدة، وهذا كله يؤدي إلى الارتقاء بالذات في مراتب قِيَمية عالية.
إن إرادة الإصلاح تكون فعَّالةً في رمضان بالخروج عن المعتاد الذي يُمثِّل دافعًا لتقوية الإرادة، والإصرارُ بعزيمة كبيرة في إصلاح الذات يستدعي تهيئة النفس، والاقتناع بضرورة التغيير الإيجابي؛ حتى تنجح خطة الإصلاح، وتنطلق مسيرة الارتقاء الذاتي، ولا يُحرَم المرءُ من ثمار هذا الشهر الفضيل، ولا تخبو شرارةُ جُهْدِه وجهادِه مع نفسه.
فما أحوج الصائم ليقف في هذا الشهر مع نفسه فيحاسبها! ويعمل على مراقبتها وضبطها بإحكام بعد أن يكتشف ما فيها من خير فيُداوِم عليه ويُضاعفه، ويعرف ما بها من عيوب ونقائصَ، فيتداركها بالإصلاح في هذه المناسبة التي يظهر فيها ما تزخَر به النفس من رأس مال رُوحي تَجعله يسمو عن المطالب البهيمية، وتوجِّهه صوب تزكية ذاته التي هو بها إنسان، فرمضان شهر التخلية من الرذائل وشوائب الملهيات، والتحلية بالفضائل، والتجمُّل بمكارم الأخلاق؛ ففيه يبتعد المرء عن الشرِّ ويُدْبِر عنه، وتكون الوجهة الجماعية إلى الخير مما يزيد من إشاعة الخير والتعاون عليه.
وإذا تمكَّن الإنسان من أن يكون أمينًا في كَبْح جماح نفسه، وامتنع عن الشهوات والسلوكيات السلبية التي ألِفَتْها نفسُه؛ بترويض اللسان والعين وجميع الجوارح على الخضوع والانصياع والاستسلام لأوامر لم يَسِر المرء على منوالها طوال السنة، وبذلك ستتحرَّر ذاته من الرتابة التي اعتادتْها، ومِن ثَمَّ سيَندفع بشكل غير مباشر إلى معانقة الكثير من القيم النبيلة التي تغفل عنها نفسُه وهي تُعاقِر الشهوات والملذَّات.
وزبدة القول أنه ليس هنالك شهر تكون فيه النفس صالحةً لقبول ما يُزرَع فيها كرمضان، فليكن هذا الشهر بداية لمسار حياة جديدة تستحقُّها نفسُك، وتطمح للوصول إليها، ولتَغتنِمْه وتَجعله نُقْطةً للانطلاق والتغيير قبل انقضائه، ولا تَدعْه يمر عليك دون أن يترك أثرًا إيجابيًّا في نفسك؛ لكيلا تقف موقف الحسرة بعد رحيله.
أمين أمكاح