تزداد الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين هذه الأيام باسم «محاربة الإرهاب» تارة وباسم «صراع الحضارات» تارة ثانية، ومرة ثالثة تحت عنوان «حوار الحضارات»، وهذا أحد الرؤساء الأميركيين يعلن «بداية الحروب الصليبية الثانية» في بداية غزوه لأفغانستان، وأحد الباباوات يتهجم على الإسلام حال تنصيبه وجلوسه على كرسي الفاتيكان في روما!! ثم يطالبوننا بـ«الاعتدال» و«الوسطية»، ويتهموننا بعدم احترام «حقوق الإنسان» غير المسلم طبعا الظروف نفسها التي نعيشها اليوم رافقت الحملات الصليبية العسكرية القادمة من أوروبا إلى المشرق الإسلامي على شكل موجات متتالية بداية من القرن الحادي عشر الميلادي تجتاح الأخضر واليابس بتحريض من رجال الدين وملوك وأمراء الإقطاع الطامعين في ثروات الشرق والحاقدين لسيطرة المسلمين على طرق التجارة البحرية والبرية القادمة من الهند وجنوب شرق آسيا والصين إلى أوروبا. وكونوا «إمارات صليبية» في الرها وأنطاكية وطرابلس ومملكة في بيت المقدس التي استشهد على أسوارها خمسون ألف مسلم.
استمر الصراع محتدما بين المسلمين والصليبيين أكثر من قرن من الزمان إلى أن جاء «صلاح الدين الأيوبي» وكنس هذا الوجود الصليبي.
وبقدر ما كانت الحملات الصليبية دمارا ونقمة على العالم الإسلامي كانت هذه الحملات نعمة على أوروبا قاطبة، فقد تشرذم المسلمون وانقسموا إلى دويلات متناحرة وانطفأت جذوة الحماس وبدأوا يعيشون عصور الانحطاط.
لقد بقيت «الحضارة الإسلامية» طيلة ثمانية قرون زاهرة لا منافس لها في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والفنية، واحتك الأوربيون بهذه الحضارة في بلاد الشام وعرفوا أن حكامهم ورجال الكنيسة خدعوهم.
عادوا إلى أوروبا، وكانت إيطاليا أقرب المناطق الأوروبية إلى العالم، بل إن المسلمين كان لهم وجود في جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا طيلة قرن ونصف من الزمان.. صقلية التي مازال متحفها يحتفظ بخريطة العالم المسلم «الإدريسي» المرسومة على لوح مستدير من الفضة، ومازالت مدينة ساليرنو Salerne في جنوبها تعتز بوجود أول «مدرسة إسلامية للطب» في أوروبا!! بدأت فيها شعلة ما عرف بـ«عصر النهضة الحديثة» والتي استمرت في مخاضها ثلاثة قرون نقلت أوروبا إلى العصور الحديثة، وقد شهدت هذه القرون الثلاثة حركة الكشوف الجغرافية للأمريكتين واستراليا وطريق رأس الرجاء الصالح إلى شرق آسيا والهند، وتدفقت الأموال والذهب والمحاصيل الزراعية الجديدة الى أوروبا (إسبانيا والبرتغال ثم بريطانيا) مما أدى إلى الثورة الصناعية أو الانقلاب الصناعي الذي نقل أوروبا من صناعة اليد إلى الآلات، وعلى الأخص الآلة البخارية ونول النسيج، ثم تلى ذلك موجة الاستعمار الأوروبي الحديث لدول آسيا وإفريقيا للحصول على المواد الخام وأسواق لمصنوعاتهم في هذه المستعمرات.
صناع الحضارة
اتسعت رقعة الدولة الاسلامية وبلغت أقصى اتساعها في عهد الدولة العباسية لتمتد من حدود الصين شرقا إلى بلاد الأندلس غربا والتي تجزأت اليوم إلى حوالي 55 دولة اسلامية، وهذا الاتساع وبالتالي تنوع المظاهر التضاريسية واختلاف الأحوال المناخية أدى إلى تنوع كبير في المنتجات الزراعية فيها والذي كانت الأساس الذي قامت عليه صناعات ناجحة مثل قصب السكر والقطن والكتان والأزهار والفاكهة والحبوب!! كما حوت أرض الإسلام الكثير من المعادن كالحديد والذهب والنحاس والفضة والأحجار الكريمة وجادت البحار بالأسماك والمراعي الواسعة أمدت الصناعة بالأصواف والجلود والوبر واللحوم، بفضل هذه المواد الأولية المتنوعة قامت في أنحاء الدولة الإسلامية صناعات مختلفة باختلاف تلك المواد وازدهرت بذلك الصناعة ازدهارًا كبيرًا وبلغت درجة عالية من الإتقان بالرغم من أنها كانت عملا يدويًّا إلا أنها اشتهرت بالدقة والمهارة والإتقان.. أين كانت أوروبا في هذه الحقبة من ازدهار حضارة المسلمين؟
كيف اتصلت أوروبا بالحضارة الاسلامية؟
لم تكن الحروب الصليبية هي الطريق الوحيد الذي عبرت فيه الحضارة الإسلامية إلى أروبا، بل كانت هناك طرق ومعابر أخرى اتصل عن طريقها الأوروبيون، فهناك الأندلس التي استقر فيها العرب حوالي ثمانية قرون بلغت فيها الحضارة أوجها وأصبحت مدنها مراكز إشعاع حضاري يأتي إليها طالبو العلم من جميع أنحاء العالم، فهذه قرطبة «Corduba» أو«Cordoba» يحج إليها أحد باباوات روما ويمكث فيها سنوات يتعلم ثم إشبيلية (Sevilla) أو (Hispalis) وغرناطة «Granada» وطليطلة «ToIedo» التي أضيئت شوارعها بـ«الفوانيس» وأدخلت إليها المياه والحمامات العامة وعرفت «العزل الصحي» فكان الوافد إلى هذه المدن يُعزل لمدة ثلاثة أيام ليُتأكد من خلوه من الأمراض المعدية كما يتوجب عليه الاغتسال في «حمام عام» وينزل في «نزل» (فندق) INN. وسبقت الإشارة إلى جزيرة «صقلية» وجنوب إيطاليا التي فتحت على يد دولة الأغالبة، ومن مدنها «بليرمو» Paleromo عاصمة صقلية اليوم ومسني Messine وسرقوسة سيراكوز Siracusa وباري «Bari» ثم ساليرنو «Salerne» التي عرفت أول مدرسة للطب ما تزال إطلالها باقية إلى اليوم كما عرفت صقلية «دار الطراز»، وهي بمعناها اليوم دار الأزياء يزورها ملوك وأمراء أوروبا لحياكة ملابسهم وتطريزها بخيوط الذهب والفضة.
ومن الطرق المهمة التي ساعدت على نقل الحضارة الإسلامية إلى أوروبا هو تبادل التجارة بين الشرق والغرب- من مصر والشام- التي يصفها ابن خلدون في مقدمته ص453 «ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم، وإيوان الإسلام، وينبوع العلم والصنائع».
وقد اغتنى التجار السماسرة الأوربيون من هذه التجارة وأثروا ثراء فاحشا خصوصا أصحاب السفن من تجار جنوه Genova والبندقية Venezia ونابولي Napoli وفلورنسا Florenze وهذا السبب الذي جعل «عصر النهضة الأوربية Renaissance يبدأ من إيطاليا القريبة من ديار الإسلام».
القائمة طويلة
وإذا كنا سنقتصر في دراستنا هذه على الصناعة التي تفوق فيها المسلمون ونقلت إلى أوروبا عن طريق تلك المعابر والسُبل السابق ذكرها.. سنجد أن القائمة طويلة يصعب حصرها.. ولما كانت أهم حاجات الإنسان في بداية عصر الدولة الإسلامية هي الملبس والمأكل فقد نشطت صناعات النسيج والأقمشة والسجاد والبسط وصناعة السكر ثم صناعة الزجاج والصابون والثلج والبارود، والسفن بأنواعها التجارية وصيد ومعقدات الفاكهة (المربيات) Jam لوفرة الفاكهة في ديار الاسلام منها الأترج- النارنج- والخوخ والمشمش والقرع والجزر والبلح ونحوها.. وصناعة طحن الحبوب في مطاحن مائية أو هوائية انتشرت في سائر أنحاء العالم الإسلامي وصناعة تجفيف السمك، أما صناعة العطور فقد نشطت وازدهرت في فارس والعراق وصار إقليم «سابور» في فارس كأنه باريس اليوم في شهرته بإنتاج العطور من زهور البنفسج والنرجس والسوسن والزئبق والمرسين والنارنج، أما مدينة «جور» في جنوب فارس والتي ينسب إليها الورد الجوري والذي استوطن دمشق والشام فيما بعد فكانت تصدر «ماء الورد» إلى المغرب والأندلس ومصر واليمن والهند والصين.
وفي المتحف الإسلامي بالشارقة بدولة الامارات العربية المتحدة ركن خاص لمصنوعات ومجسمات معدنية لأدوات طبية استخدمها أشهر أطباء المسلمين، وركن آخر للسجاد بنقوشه ورسومه الجميلة وركن ثالث لأجمل المسكوكات والنقود المعدنية الذهبية والفضية والنحاسية لعصور إسلامية مختلفة، لقد انتشرت «دور الضرب» أو «دور السكة» في جميع أنحاء العالم الإسلامي واستعانوا بخبرة الساسانيين من الفرس والبيزنطيين وصار منصب «ناظر السكة» من المناصب المهمة في الدولة الإسلامية وقد عرف المسلمون ثلاثة أنواع من العملة الذهبية ووحدتها «الدينار» والعملة الفضية وحدتها «الدرهم» والكلمتان مشتقتان من العملة الإغريقية القديمة «ديناريوس» و«دراخما»، أما العملة النحاسية فكانت وحدتها «الفلس».
أما الصناعات الخشبية والحفر على الخشب والذي اكتسب اسم الأرابيسك (Arabisc) اشتهرت به مصر والباكستان والهند من أخشاب الساج والأبنوس والزان والعرعر وغيرها ولاتساع الموضوع وشموليته الصناعة في الحضارة العربية الاسلامية سنقصر دراستنا على بعض الدراسات والصناعات التي أثر على أوروبا وهي صناعة النسيج، صناعة السكر.
صناعة النسيج
لما كانت حاجات الإنسان قديما وقبل الإسلام تكاد تنحصر في مطلبين أساسيين هما المأكل والملبس فقامت شعوب هذه المنطقة بصناعة حاجتها من الملبس مما توافر لها من مواد خام لهذه الصناعة فقد عرف المصريون زراعة الكتان الذي صنعوا من سيقانه ملابسهم واستخدموا زيت بذرة الكتان في طعامهم ووجدت كميات كبيرة من أنسجة الكتان في مقابر ملوكهم ملفوف بها «مومياءات» فراعنتهم، وعرف العرب وبر الجمل وصوف الغنم وكانت ملابسهم خشنة غير دقيقة الصنع.. وعرف الفرس القطن وكذلك بلاد ما بين النهرين وكرمان... ومناطق آسيا الوسطى في خوزستان وطبرستان وأفغانستان عرفت خيوط الحرير لقربها من الصين، وكانت تصنع فيها أقمشة الديباج وخيوط الإبريسم في مدينة «مرو» في طبرستان ولما أصبحت هذه المناطق تستظل بمظلة الإسلام ازدهرت صناعة النسيج واعتبرت من أهم الصناعات بحيث إن أغلب حكومات الإسلام جعلته احتكارا لها وعرفت مصانعه باسم الطراز، وهي كلمة فارسية تعني التطريز أو الملابس، لقد أصبح لهذه الصناعة هيئة كبيرة من العمال والموظفين ووسائل نقل كثيرة خاصة به من مراكب ودواب.. لقد أطلق «موريس لومبار» في كتاب «الإسلام في عظمته الأولى» على الحضارة الإسلامية حضارة نسيج.. لأجل اللباس ولأجل الأثاث، وينسج معه السجادة أهم قطعة في المنقولات المنزلية ونسيج للخيام والجيوش.
لقد بلغت صناعة السجاد في الدولة الإسلامية درجة عالية من الإتقان ومازال السجاد العجمي (الفارسي) (Persian) يتصدر أفخر أنواع السجاد المصنوع من الصوف والحرير والقطن والجوت، وحملت أنواع السجاد أسماء المدن التي صنعت فيها برسومها ونقوشها الخاصة بها فهذا النقش «الشيرازي» و«التبريزي» و«الأصفهاني» وكان ينافسه السجاد التركي عموما وسجاد بورصة عاصمة بني عثمان الأولى ومثوى رفات عثمان وابنه أورهان.. كانت مدينة بورصة في البر الآسيوي تمثل نهاية الطريق الشهير «طريق الحرير» silk way الذي يبدأ من الصين حيث اكتسب اسمه من أهم بضاعة حملتها القوافل وهي الحرير والسجاد والبخور والعطور والأحجار الكريمة والتوابل وغيرها.. يمر عبر سلاسل جبلية معقدة في «هيمالايا» وسليمان و«قرة قورم».
يقول الدكتور فيليب حتى في كتابه «تاريخ العرب»: لم يكن هذا النشاط التجاري ليبلغ مداه لولا أن وراءه صناعة وطنية متقنة ومهمة وزراعة واسعة ومتنوعة.
ويضيف كان لأم الخليفة المستعين في عصر الرخاء العباسي سجادة حيكت لها خصيصا بلغت أكلافها مائة وثلاثين مليون درهم عليها صور لكثير من أنواع الطيور مصنوعة من خيوط الذهب وعيونها من الياقوت وسواه من الأحجار الكريمة.
أما أقمشة الملابس فأمرها عجيب عظيم، فقد اتخذت لها أسماء حسب المادة الخام المصنوعة منها التيل Linen الذي انتقلت صناعته من مصر حيث أتقن القبط صناعته، والبز أو النسيج القطني والخز الذي أدخلت صناعته من الصين عن طريق الفرس و«الديباج» وهو قماش ملون رقيق، و«السقلاطون» وهو نوع من الحرير الموشى بخيوط الذهب و«القطف» وعرف فيما بعد بـ«القطيفة» يصنع من الحرير المخلوط بوبر ذكر الأرانب، والسندس وقد ورد ذكره في القرآن الكريم.. وهو نوع من القماش الشفاف رقيق كالديباج حرف في اللغات الأوروبية إلى «Chifon»، كما حملت الأقمشة أسماء المدن الإسلامية التي صنعت فيها الدمقس Damascus نسبة إلى دمشق، والموسلين Mousseline نسبة إلى الموصل بالعراق اليوم، والكوفية لباس الرأس نسبة إلى مدينة الكوفة، والديبقي ينسب إلى مدينة دابق قرب مدينة دمياط بمصر، والقباطي نسبة إلى الأقباط في مصر، والتنيسي في مصر التي صنع فيها أجود أنواع الكتان.
كما اكتسب صناع هذه الحرفة أسماء الصناعات التي يصنعونها مثل: البزاز (بائع البز)، والخزاز، والقطان، والحائك، و«الطرزي» صاحب دار الطراز.
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وظهور التمايز الطبقي صار لكل طبقة لباس وزي تعرف به، بل إن المناصب والرتب الحكومية كان لكل موظف فيها زي يعرف به، بل إن ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع اعتبر الزي من مظاهر الحضارة الإسلامية وفنونها.
فعرفت «الجبة» زي رجال الدين والأردية والسراويل والعمائم والقلانس والجلاليب وهو ثوب غليظ لعامة الناس، وسترة وقفطان، ورجال القضاء يلبسون «الطيالس» ومفردها «طيلسان»، أما الجند فكانوا يرتدون «بزة» تزينها شرائط حسب رتبة الجندي ومنها عرف بالشرطي، كما لبس بعضهم «الإزار» حول وسطه، وكان يصنع من الحرير أو القطن حسب المنزلة الاجتماعية لصاحبه.
ولبست النساء الرداء، والمطرف (رداء طويل له طرف) ودراعة، وملاية، والنقاب والذي اقتصر لبسه على الطبقة الأرستقراطية في بداية الأمر تأسيا بنساء النبي " صلى الله عليه وسلم" ، والسراويل التي عرفتها نساء العرب قبل الإسلام والذي عرفه الأوروبيون فيما بعد باسم «Pantalon».
وفي فارس اشتهرت مدينة فستان «Vistan» بصناعة نسيج يتلون بألوان الشمس، فكان يقال زوجة الخليفة ترتدي رداء من «فستان» ثم حذف حرف الجر (من) فصارت ترتدي المرأة «فستان»، وهذه الكلمة مازالت في المشرق الإسلامي- بلاد الشام ومصر وغيرها.
ونحن بهذا الصدد لن ننسى الصناعات المرتبطة بالنسيج ومنها الصباغة، فقد كانت النيلة القرمزية التي تستعمل للتلوين بالأزرق فهي نبات أدخل من الهند إلى ما بين النهرين واليمن والمناطق المنخفضة في أغوار فلسطين وسورية، كما استخدم الزعفران في التلوين بالأصفر وورد النيل أو العظام للتلوين بالأحمر، ويعرف صاحب هذه الحرفة بـ«الصباغ».
وصاحب تكاثر وتنوع الخامات والمواد الأولية النسيجية ومواد الصناعة تقدم في تقنيات الصناعة فعرفت أنوال ذات سدى أفقي، وأخرى ذات سدى عمودي ثم النول ذو الدواسة نقلوه عن الصين، واستخدم النول مع المكوك الطيار في صناعة السجاد.
صناعة السكر
لم تعرف أوروبا المذاق الحلو إلا من عسل النحل أو السكر الذي تحتوي عليه ثمار الفواكه كالعنب والتفاح وغيرها، وكان استخدام العسل قاصرا على الطبقة المترفة لارتفاع سعره وقلة الكميات المنتجة منه! وكان السكر الذي يعرف باسمه العربي في لغات العلم- بالإنجليزية «Sugar» وبالفرنسية «Suere»- مأثرة أخرى من مآثر المسلمين على دنيا الحضارة. «ومع أنه ليس اختراعا عربيا.. إلا أن أياديهم البيضاء في تطوير صناعته ونشره لا يمكن أن تنكر». يعتقد أن الموطن الأصلي لنبات قصب السكر هو الهند ثم نقله الفرس أول مصنع له في «جُند بسابور» وانتشرت زراعة السكر ومعامل تكريره في سورية ومصر وفلسطين وقبرص وبحر قزوين وصقلية وإسبانيا، وكانت مصر الأسبق في تحسين هذه الصناعة، وصنعوا من السكر نوعا من الحلوى سميت «قنده» حرفت باللغات الأوروبية إلى «Candy» وظلت هذه المناطق العربية والإسلامية المصدر الأساس للسكر في العالم الإسلامي وأوروبا- حتى القرن السادس عشر الميلادي، وكانت الأندلس (إسبانيا) وصقلية من أهم المعابر التي عبرت منها صناعة السكر الى أوروبا! فقد ذكرت المصادر أن الإغريق في غزوهم لفارس والهند عرفوا نبات قصب السكر ووصفوه بأنه «ضرب من القصب المدهش ينتج نوعا من العسل بدول تدخل النحل».
نقل البحار- الملاح- دون أنريك زراعة قصب السكر من صقلية إلى جزر ماديرا عام 1420م ثم تبعه كريستوفر كولومبس مكتشف العالم الجديد (أميركا) فأدخل زراعة قصب السكر إلى جزر الدمينكان في رحلته الثانية إلى هناك عام 1493م ثم انتشرت زراعته في وسط أميركا (كوبا خصوصًا وجنوبها البرازيل)، وأصبح السكر تجارة دولية رائجة، وكان أول مصنع لتكرير السكر في أوروبا قد أسس في عام 1573م في مدينة «أوجسبرج» وتلاه مصنع آخر في «درسدن» بألمانيا عام 1597م.
وقد ارتبطت بصناعة السكر صناعات أخرى كثيرة أهمها صناعة الحلوى في العالم الإسلامي خصوصًا عصر الدولة العباسية وعصر الدولة الفاطمية التي كانت توزع الحلوى في عيد الفطر وعيد الأضحى وكانت توزع «قراطيس سكر القند» على العامة إذا ما رزق الخليفة بغلام وليا للعهد، ومن أنواع الحلوى التي كثر الحديث عنها وكتبت فيها الأشعار للخلفاء: الفالوزج واللوزينج والخشاف والجلاب والفطير والهريسة، وكانت جميعها أساسها السكر والدقيق والسمن.
كما عرف المسلمون «دبس القصب» المولاس Moulase ويطلق عليه في مصر العسل الأسود «دبس العنب» و«دبس الخرنوب» و«دبس الرمان» وهي مواد أساسية في عشاء ليالي الشتاء البارد في بعض المناطق.. ولما قام نابليون بونابرت بحملته الشهيرة على مصر عام 1798م كان من أهدافه قطع الطريق بين بريطانيا العظمى في ذلك الوقت ومستعمراتها في الشرق خصوصا جوهرة التاج البريطاني (الهند) وصنع السكر من نبات آخر هو البنجر «Beets» وحسنت أنواعه، ورفعت نسبة السكر فيه وتمكنت العراق أثناء الحرب العالمية الأولى (1914م – 1918م) من استخلاص السكر من «تمر النخيل» إلا أنه كان «يتميأ» بسرعة ويصبح لزجا سريع العطب إذا تعرض لرطوبة الجو لذا بقي استخدام سكر التمر قاصرًا على صناعة الحلويات والمياه الغازية هناك.
وبعد، لا ينكر فضل الحضارة الإسلامية على أوروبا إلا جاحد أو لئيم، ففي كل جانب من جوانب الحضارة الإسلامية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والفنية وغيرها نجد مآثره للمسلمين، وإن ما أثلج صدري وأنا اقوم بهذه الدراسة وفرة المصادر والمراجع التي وقعت عليها- عربية وغير عربية- بل تخصص البعض في الكتابة عن فن العمارة الإسلامية فقط وآخر عن الطب وأدواته، وهكذا إن ما أنجزه هؤلاء المبدعون الأقدمون هو الذي أوصل إنسان العصر الحديث إلى ما وصل إليه.